“أطفال القمر”.. براءة أجبرها مرض نادر على التواري خلف الجدران
يتوارون خلف العتمة مجبرين، وجوههم منقطة وعيونهم شاحبة أنهكها مرض ليس ككل الأمراض. إنهم مرضى “كزينوديرما” أو ما يعرف بـ “أطفال القمر”. في هذا الروبورطاج نتعرف عن هذا المرض النادر ونلمس عن قرب مكابدة براءة تقبع خلف سواد دائم.
*أسماء بوخمس
بلباس أسود طويل يغطي جسمها النحيف، تجلس هدى ذات 12 سنة رفقة والدتها بقاعة الانتظار بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، تنتظر دورها لمعاينة الطبيب واضعة قبعة سوداء فوق رأسها ونظارت شمسية. وجهها يثير انتباه النظر ببقعه اللونية المنقطة وكثرة النمش. تقول هدى بنبرة حزينة وصوت متهدج : “مرضي جعلني أكثر عصبية، أشعر بالوحدة، وفصل الصيف بالنسبة لي جحيم.. لا أستحمل حتى سماع كلمة الشمس”.
هدى مصابة بمرض جيني وراثي ينتقل إلى الأطفال في حالة ما إذا كان أحد الوالدين يحملان الجينة المشوهة المسببة للمرض، وهذا ما يمكن معاينته عن قرب في بعض الحالات من “أطفال القمر” التي ترد على المستشفى صحبة شخصين أو ثلاثة مصابين أيضا من نفس العائلة تقول الطبيبة. المرض معروف بـ “كزينوديرما” (Xeroderma pigmentosum) أوما بات يصطلح عليه بمرض “أطفال القمر” وهو مرض وراثي نادر تم اكتشافه لأول مرة سنة 1870 من طرق الدكتور مورتيز كابوزيKaposi » « Moritz.
ويتميز مرض “كزينوديرما” بحساسية جلدية شديدة عند التعرض لأشعة الشمس، وبخطر الإصابة بسرطان الجلد والعين بنسبة مضاعفة تصل 1000 مرة مما هو عليه الحال لدى الأشخاص العاديين. وهذه الأعراض ناتجة عن فقدان الADN لخاصيته في معالجة الطفرات نظرا لغياب أنزيم بوليميراز 1 و3، الذي يعمل على معالجة الطفرات الناتجة عن اختراق الأشعة فوق البنفسجية للجلد، وغيابه يؤدي إلى كثرة الطفرات، وفي النهاية الإصابة بسرطان الجلد.
مرض مزمن ومجتمع لا يرحم
في ظل غياب احصائيات رسمية، يقدر عدد المصابين بأمراض “كزينوديرما” حوالي 400 حالة إصابة حسب تقديرات منظمات المجتمع المدني، في هذا الصدد تقول الطبيبة سامية أوحجو، الأخصائية في الأمراض الجلدية “إن المرض ليس معديا، لأنه مرض جلدي جيني، يستوجب المراقبة الطويلة والتدخلات الجلدية في حال ظهور تقرحات جلدية قد تسبب للمريض تشوهات تتطور فيما بعد لأورام سرطانية خبيثة”. وتضيف الطبيبة أوحجو “لا يوجد علاج نهائي لهذا المرض المزمن، ويبقى السبيل الأوحد للحد من تطوراته هو تجنب المصاب لأشعة الشمس ووضعه لمراهم وملابس خاصة”.
في 24 دجنبر من سنة 2012 رأت جمعية التضامن مع أطفال القمر النور بمدينة الدار البيضاء، بعد تجربة سيدة حولت مكابدة فقدان ابنها بسبب إصابته بمرض “كزينوديرما” إلى عمل تطوعي يضخ ولو النزر اليسير من الأمل في قلوب أسر وأطفال يعانون في صمت. تقول نزهة اشقوندي رئيسة جمعية التضامن مع أطفال القمر في تصريح خصت به مجلة “لكل النساء”، “بعدما رزئت بموت ابني في سن صغيرة بسبب مرض “كزينوديرما” الذي كنا نجهل عنه الكثير، حيث كان ابني يلعب ويتعرض لأشعة الشمس بشكل عادي الأمر الذي عجل بوفاته في سن سبع سنوات”. نزهة تردف بالقول “شاءت الأقدار أن أرزق بابنتي سناء يقضان التي تجرعت من نفس كأس أخيها مرارة هذا المرض المزمن، ولحسن الحظ أصبحنا نعلم كيفية التعامل مع هذا المرض، بحيث نضع واقيا على النوافذ حتى لا تتسرب أشعة الشمس ولا تخرج سناء حتى مغيب الشمس تجنبا لأي ضرر”. وعن الدور المنوط بالجمعية تتحدث اشقوندي، “جمعيتنا تعمل على توعية الناس وكسر الطابو عن مرض “أطفال القمر”، هذا بالإضافة إلى توفير المراهم والبدلات العازلة التي لا تسمح بنفاذ أشعة الشمس”.
من جانبه يرى الدكتور علي الشعباني، الباحث في علم الاجتماع معاناة هؤلاء الأطفال الذين أصبحت الشمس تعادل النقمة لديهم بـ “إن التعرض للشمس هو شيء طبيعي، لا بد للإنسان أن يتعرض لها، لكن عندما تتحول الشمس إلى مصدر من مصادر الخطر، فعلينا أن نقدر درجة العزلة التي يعيش فيها هؤلاء الأطفال وكذلك تلك المخاوف والهواجس الكبرى التي تتخبط فيها الأسرة التي ترى فلذة كبدها محرومة من أبسط الأشياء”. ويضيف الشعباني “خاصة وأننا نعلم أن الطفل يكون شديد الحركة واللعب ليجد نفسه مقبوعا في مكان وسط أربع جدران الشيء الذي تترتب عنه انعكاسات خطيرة سواء على الأسرة التي قد يتغير إيقاع حياتها ولا بالنسبة للابن المصاب الذي يعيش في عزلة إجبارية”.
بين الانقطاع عن العالم الخارجي وقسوة الحياة
“ما يحز في نفسيتي هو عدم توفير مدارس خاصة بأطفال القمر حتى نتمتع بحقنا في التمدرس، فنحن نمتلك قدرات قد تفوق الطفل العادي، لكن للأسف لا توجد مدارس تتماشى مع متطلباتنا الصحية” هكذا تحدث سناء يقضان ذات 26 سنة، والتي تشتغل ككاتبة عامة لجمعية “التضامن مع أطفال القمر”. رضا امحاسني الأخصائي في علم النفس يقول “هؤلاء الأطفال يعانون من التحرش المعنوي الذي في بعض الأحيان يتحول إلي تحرش جسدي فقط لأن الطفل مختلف على مستوى المظهر” ويضيف “عندما يزداد العامل الثقافي (المعتقدات الخرافية) تجاه هؤلاء الأطفال من نعتهم بالأرواح الشريرة وغيرها من الألقاب التي تترك في نفسيتهم أثرا خطيرا تجعلهم يتعاملون مع ذاتهم بطريقة سلبية (سوء تقدير للذات) مع عدم القدرة على نسج علاقات اجتماعية”.
في المغرب، توجد في مدينة العيون جنوب المغرب، مدرسة قامت بالاستجابة لطلب أطفال القمر بالتعلم، حيث تستقبلهم بعد مغيب الشمس للتمدرس في بادرة يشرف عليها أساتذة متطوعون. وفي ظل عدم تعميم التجربة على كل أنحاء البلاد، تبقى مثل هذه المبادرات يتيمة حسب نزهة اشقوندي رئيسة جمعية التضامن مع أطفال القمر، في ظل عدم وجود مراكز قائمة بذاتها تقدم أسس التعلم وفق طريقة منهجية صحيحة تستجيب لآخر التطورات العلمية وتحفظ سلامة هؤلاء الأطفال بما في ذلك بناية عازلة لأشعة الشمس. وبنبرة متأسفة تذيل رئيسة جمعية التضامن مع أطفال القمر حديثها “للأسف راسلنا وزارة الصحة ووزارة التعليم لكن لحد الساعة ليست هناك آذانا صاغية خاصة وأن المرض ليست له تغطية صحية وتكاليفه باهظة”.
قبول الاختلاف والحب اللامشروط
يرى الأخصائي في علم النفس رضا امحاسني أن القبول بالآخر كيفما كان يجب التعود عليه في سير حياتنا حتى لا نزيد من معاناة أطفال قدر لهم أن يكونوا مختلفين عنا على مستوى المظهر. ويعتبر الدكتور امحاسني “أن من واجب الآباء والمؤطرين تبادل أواصر حب لا مشروط بالنجاح وتحقيق الذات فقط، بل حبا ومودة تجعل ذاك الطفل قادرا على تجاوز كبوات الحياة والدفاع عن نفسه وتقدير ذاته”. أما سناء يقضان فتردف بالقول “ما أريد أن أركز عليه وتمريره كرسالة لكل أطفال القمر هو ضرورة التعايش مع المرض ومحاولة تجاوز سوء تقدير الذات، الحياة مستمرة وأنا تعلمت في المنزل..”. وبالتالي “فإحداث مدرسة خاصة وفق هندسة تجعلها محمية من الخارج من حق الأجيال القادمة “.
هم اذن أطفال ليسوا كباقي الأطفال. شمسهم هي القمر الذي يرون فيه بصيص الأمل والنور. نهارهم يبدأ بغروب الشمس بعدما أجبرهم مرض “كزينوديرما” على تحويل يوميات حياتهم إلى الليل. أما لسان حال “أطفال القمر” وذويهم فتلهج بعبارة واحدة “الحق في التغطية الصحية فوق كل اعتبار.. نحن إنسان ولسنا كائنات بشعة..”.